المعرفة التاريخية والدولة لدى مؤرخي الأطراف في البلاد التونسية خلال العصر الحديث

<p>يقسم بعض المؤرخين الإخباريين إلى منتجي معرفة تاريخية موضوعها الدولة أساسًا، وإلى آخرين منتجي معرفة تاريخية يتعلق موضوعها بجهاتهم. ذكر أحمد عبد السلام العديد من الإخباريين الموالين للدولة، وقدّم لمؤلفاتهم، من بينهم ابن أبي دينار في القرن السابع عشر، وحسين خوجة والوزير السراج وحمودة بن عبد العزيز في القرن الثامن عشر، وخير الدين التونسي وأحمد بن أبي الضياف وغيرهم في القرن التاسع عشر. وركز هؤلاء المؤرخون في أخبار السلطة المركزية، ولم يجرِ التطرق إلى أخبار الجهات والمجتمعات الطرفية في متونهم ومؤلفاتهم إلا بقدر تدخل الدولة فيها. ويهتم مؤرخو النواحي بأخبار جهاتهم والمجتمعات المحلية وأهل المناطق الطرفية التي يكتبون عنها. وذكر بعضهم أيضًا أحمد عبد السلام في رسالته في تاريخ الثقافة، ومن بينهم في القرن السابع عشر، المنتصر بن المرابط بن أبي لحية القفصي، وفي القرن التاسع عشر محمود مقديش الصفاقسي ومحمد أبو راس الجربي، وبقي بعضهم إلى تواريخ متأخرة غير معروف لدى الخاصة والعامة بسبب عدم الترجمة له، من بينهم سليمان بن أحمد الحيلاتي الجربي وسعيد بن تعاريت الجربي وغيرهما. وركز هؤلاء في هياكل النفوذ المحلية، ولم يهتمّوا بأخبار الدولة إلا بقدر ما لهياكل النفوذ المحلية علاقة بها. وفي الحصيلة، تكون أخبار الدولة في إنتاج المعرفة التاريخية لدى هؤلاء، طرفية بالنسبة إلى الأخبار المتعلقة بهياكل النفوذ المحلي، ويكون الأمر على النقيض من ذلك لدى أولئك.</p>
<p>وتمثل الدولة والمجتمعات المحلية ومؤسسات النفوذ المحلي تركيبات سياسية ومجتمعية معقدة تشارك فيها أطراف عدّة وفاعلون اجتماعيّون من بينهم المؤرِّخون أنفسهم. وتنشأ في الحالات جميعها معادلة بين المؤرخ بوصفه فاعلًا اجتماعيًّا، والمؤرخ بوصفه منتِجًا للمعرفة التاريخية.</p>
<p>واستنادًا إلى هذا المنطق سندرس علاقة المعرفة التاريخية بالدولة وطبيعتها في متون الإخباري سليمان بن أحمد الحيلاتي والإخباري محمد أبو راس الجربي ورسائلهما. وينتمي كلاهما إلى جزيرة جربة ولذلك ينعت كل منهما بالجربي ويتخذان من الجزيرة، خلال عهد الأتراك العثمانيين، موضوع متنهما. وقد كانت جربة حينها تحت حكم عائلات أعيانٍ إباضية وخصوصًا عائلة الشيخ مسعود بن صالح السمومني. وكان آخر أمراء الحكم ومشايخه في جربة، السمومني الذي تولّ الحكم سنة 1558، ثم عائلة بن جلود التي انقرضت بوفاة الشيخ سعيد بن محمد بن صالح بن جلود سنة 1800-1801. ومرت جربة حينها من تبعية الإيالة الطرابلسية التي استمرت من سنة 1551-1552 حتى بداية القرن السابع عشر، ثم أُلحقت بالإيالة التونسية، وبلا رجعة، بداية من عهد يوسف داي (1610-1937).</p>
<p>&nbsp;والمهم أن نفهم طبيعة المعرفة التاريخية التي أنتجها الإخباري الحيلاتي المتوفّ نهاية القرن السابع عشر، والإخباري الجربي المتوفّ في مطلع القرن التاسع عشر. ما مكانة الدولة ومنزلة أخبار منطقة جربة في متنهما؟ وما علاقة الوضع الاجتماعي الذي كان يشغل هذا وذاك بإنتاج المعرفة التاريخية؟ وهل لهما خلفية معيَّنة يستتران وراءها ومشروع سياسي ومجتمعي يروِّجان له ويدافعان عنه؟ وهل هذه المشاريع متشابهة أم متنافرة؟</p>

حمّل المادة حمّل العدد كاملا الإشتراك لمدة سنة

ملخص

زيادة حجم الخط

<p>يقسم بعض المؤرخين الإخباريين إلى منتجي معرفة تاريخية موضوعها الدولة أساسًا، وإلى آخرين منتجي معرفة تاريخية يتعلق موضوعها بجهاتهم. ذكر أحمد عبد السلام العديد من الإخباريين الموالين للدولة، وقدّم لمؤلفاتهم، من بينهم ابن أبي دينار في القرن السابع عشر، وحسين خوجة والوزير السراج وحمودة بن عبد العزيز في القرن الثامن عشر، وخير الدين التونسي وأحمد بن أبي الضياف وغيرهم في القرن التاسع عشر. وركز هؤلاء المؤرخون في أخبار السلطة المركزية، ولم يجرِ التطرق إلى أخبار الجهات والمجتمعات الطرفية في متونهم ومؤلفاتهم إلا بقدر تدخل الدولة فيها. ويهتم مؤرخو النواحي بأخبار جهاتهم والمجتمعات المحلية وأهل المناطق الطرفية التي يكتبون عنها. وذكر بعضهم أيضًا أحمد عبد السلام في رسالته في تاريخ الثقافة، ومن بينهم في القرن السابع عشر، المنتصر بن المرابط بن أبي لحية القفصي، وفي القرن التاسع عشر محمود مقديش الصفاقسي ومحمد أبو راس الجربي، وبقي بعضهم إلى تواريخ متأخرة غير معروف لدى الخاصة والعامة بسبب عدم الترجمة له، من بينهم سليمان بن أحمد الحيلاتي الجربي وسعيد بن تعاريت الجربي وغيرهما. وركز هؤلاء في هياكل النفوذ المحلية، ولم يهتمّوا بأخبار الدولة إلا بقدر ما لهياكل النفوذ المحلية علاقة بها. وفي الحصيلة، تكون أخبار الدولة في إنتاج المعرفة التاريخية لدى هؤلاء، طرفية بالنسبة إلى الأخبار المتعلقة بهياكل النفوذ المحلي، ويكون الأمر على النقيض من ذلك لدى أولئك.</p>
<p>وتمثل الدولة والمجتمعات المحلية ومؤسسات النفوذ المحلي تركيبات سياسية ومجتمعية معقدة تشارك فيها أطراف عدّة وفاعلون اجتماعيّون من بينهم المؤرِّخون أنفسهم. وتنشأ في الحالات جميعها معادلة بين المؤرخ بوصفه فاعلًا اجتماعيًّا، والمؤرخ بوصفه منتِجًا للمعرفة التاريخية.</p>
<p>واستنادًا إلى هذا المنطق سندرس علاقة المعرفة التاريخية بالدولة وطبيعتها في متون الإخباري سليمان بن أحمد الحيلاتي والإخباري محمد أبو راس الجربي ورسائلهما. وينتمي كلاهما إلى جزيرة جربة ولذلك ينعت كل منهما بالجربي ويتخذان من الجزيرة، خلال عهد الأتراك العثمانيين، موضوع متنهما. وقد كانت جربة حينها تحت حكم عائلات أعيانٍ إباضية وخصوصًا عائلة الشيخ مسعود بن صالح السمومني. وكان آخر أمراء الحكم ومشايخه في جربة، السمومني الذي تولّ الحكم سنة 1558، ثم عائلة بن جلود التي انقرضت بوفاة الشيخ سعيد بن محمد بن صالح بن جلود سنة 1800-1801. ومرت جربة حينها من تبعية الإيالة الطرابلسية التي استمرت من سنة 1551-1552 حتى بداية القرن السابع عشر، ثم أُلحقت بالإيالة التونسية، وبلا رجعة، بداية من عهد يوسف داي (1610-1937).</p>
<p>&nbsp;والمهم أن نفهم طبيعة المعرفة التاريخية التي أنتجها الإخباري الحيلاتي المتوفّ نهاية القرن السابع عشر، والإخباري الجربي المتوفّ في مطلع القرن التاسع عشر. ما مكانة الدولة ومنزلة أخبار منطقة جربة في متنهما؟ وما علاقة الوضع الاجتماعي الذي كان يشغل هذا وذاك بإنتاج المعرفة التاريخية؟ وهل لهما خلفية معيَّنة يستتران وراءها ومشروع سياسي ومجتمعي يروِّجان له ويدافعان عنه؟ وهل هذه المشاريع متشابهة أم متنافرة؟</p>

المراجع