"[…] فلا يمضي زمن طويل حتى تصير [فلسطين] كلها لليهود. ولا عبرة في من يتولى شؤونها السياسية، ولا فرق أن تكون يومئذ في سلطة العثمانيين أو العرب أو الفرنسيين أو الإنكليز. فإن العبرة في من يملك الأرض ويستولي على غلَّتها، وليس صاحب السيادة السياسية إلا وسيلة لحفظ الأمن وتأييد ذلك الملك لصاحبه" (جرجي زيدان، 1913)[1].
في عام 1913، كتب جرجي زيدان واصفًا الحال في فلسطين على نحو يؤكد قوة الملكية الخاصة مقابل السيادة. كان حديثه يدور حول تملُّك اليهود الأرض في فلسطين، على نحو بدا له عملية كاسحة ستسيطر على البلد بأسره، وذلك على الرغم من أن هذه العملية لم تكن تمثّل سوى ظاهرة محدودة في ذلك الوقت. لعل زيدان عكس صدى القلق في فلسطين والمشرق العربي عمومًا من هذه الظاهرة[2]. لكن المُثير للانتباه فيما كتبه يتعلَّق بقوة الملكية مقابل السيادة، كما يظهر في الاقتباس المذكور.
إذا كان في الملكية، أو منطق السوق المحض وشرعيتها، تلك القوة القاطعة، فما دور الانتداب ووعد بلفور إذًا في تاريخ فلسطين، وفي تاريخ ملكية الأرض بالتحديد؟ علمًا بأن المِلكيات اليهودية الاستيطانية آنذاك لم تكن نسبتها تُذكَر، وهذه المِلكيات، على اتساعها وأهميتها خلال الانتداب، لم تتجاوز ما نسبته 6 في المئة من أرض فلسطين (شاملة الامتيازات الحكومية)، وهذا ما يدل على قوة سوق الأرض ومحدوديتها على السواء.
ليس هناك جواب بسيط عن هذا السؤال؛ إذ يكمن الجواب في رأينا في التعمق في العلاقة بين المِلكية والسيادة من جوانب اجتماعية وسياسية وحُكمانية؛ فتصور زيدان، وكثير من الكُتّاب اللاحقين والراهنين، لهذه المسألة، أي قوة الملكية والسوق وعلاقتهما التلقائية بالسيادة، يحوي كثيرًا من التبسيط والاختزال؛ إذ لا يقدِّم تصويرًا وافيًا للمفهوم الاستعماري الاستيطاني للملكية والأرض، وهو غير قادر على فهم الانتداب ودور الحكومة عمومًا، حتى في ظل أيديولوجيا السوق التي ارتكز عليها الانتداب، وغير قادر على فهم المناظير الفلسطينية أيضًا.
على العموم، يركّز كثير من الأدبيات التاريخية الفلسطينية والمناهضة للاستعمار على الانحياز البريطاني إلى الصهيونية ومدى تطويع سياسات الحكومة الانتدابية لخدمة المشروع الصهيوني. ولكن هذه السردية بدأت تتعدَّل في العقدين الأخيرين أو العقود الثلاثة الأخيرة، ضمن أجندات سردية جديدة؛ فنجد مثلًا، فيما يخص موضوعة الأرض، اهتمامًا بحثيًّا جديدًا ينطلق من المقارنة بين النظامين الانتدابي والإسرائيلي في تعاملهما مع المِلكيات العربية. ومن هذا المنظور يتبيَّن فارق كبير بين النظامين؛ فعلى الرغم من أن الإسرائيليين ورثوا نظام تسوية الأراضي البريطاني، فإنهم قلبوا منطقه على نحو شبه كامل.
يمكن اختصار هذا الانقلاب على النحو الآتي: إبَّان الانتداب، كان هدف عملية "تسوية الأراضي" التي أدخلها البريطانيون تعميم نظام الملكية، ومنح سندات "طابو" لأصحاب الأرض الفعليين، بالاعتماد بقدر كبير على النظام القروي العربي القائم لاستغلال الأرض. أمّا النظام الإسرائيلي فقد خلق بيئة تكنوقراطية وقضائية جديدة، من أهدافها التقليص الجذري للمِلكيات العربية، وإفساح المجال للاستيطان الصهيوني. وبينما اعتمد إثبات الحقوق (أو تسوية الأرض) في الحقبة الانتدابية على "المعرفة المحلية"، لا على سندات الطابو العثماني بالضرورة، باتت سياسة التسوية الإسرائيلية معادية للمعرفة المحلية، وهادفة إلى استئصالها. وفي حالات كثيرة، حُجبت، أو عُرقلت، حتى إمكانية تسجيل الحقوق التي تدعهما وثائق أو أدلة مادية (كما حصل في النقب، وفي الأراضي المحتلة عام 1967 عمومًا). هذا، بالطبع، إضافة إلى السلب الكبير لأراضي اللاجئين الفلسطينيين بعد عام 1948[3].
لكن هذه الأجندة السردية الجديدة المهتمة بالبحث التاريخي من منظور الحاضر غير قادرة على طرح الأسئلة التاريخية المهمة عن الانتداب والسياسة الاستعمارية عمومًا، على نحو يلقي الضوء على إشكالية الاستمرارية/ الانقطاع في صيرورة القضية الفلسطينية. في هذه الورقة، سنحاول طرح إشكالية الحقوق المدنية في السياق الاستعماري الانتدابي، وأثرها في التاريخ الاجتماعي والسياسي الفلسطيني، متناولين مسألة الأرض في غور بيسان مثالًا.
كما هو معروف، في صياغة وثيقة "وعد بلفور" في 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1917، ثمة ذكر للحقوق المدنية (فضلًا عن الدينية) لأهالي فلسطين "غير اليهود". لقد فُهمت هذه العبارة في سياق النص (وتحديدًا في سياق ذكر "الوطن القومي اليهودي" و"الحقوق السياسية" لليهود في العالم)، بوصفها نفيًا للحقوق السياسية للفلسطينيين. وهذا بكل تأكيد فهم صحيح، لكنه لا يكفي؛ لأنه يفترض أن موضوعة الحقوق المدنية أمر مفروغ منه وبسيط. ولكنها بعيدة عن أن تكون كذلك حقًّا؛ ويعود ذلك إلى سببين سنستعرضهما في التحليل في هذه الورقة: أولًا، كون الحقوق المدنية والحقوق السياسية، كما تدلنا القراءات النظرية الدقيقة، مرتبطة جوهريًّا، ولكن أشكال الارتباط بين هذين النوعين من الحقوق تكون دومًا متعددة المستويات، ومفتوحة للتأويل والصراع. وثانيًا، كون موضوعة الحقوق المدنية تحتوي على عملية محو وإعادة تأطير للحقوق والأعراف والعلاقات الاجتماعية، ولذا فهي غير متجانسة المعاني والأبعاد بالنسبة إلى جميع الفاعلين.
منهجيًّا، ما نقترحه في هذه الورقة هو إعادة تفسير النصوص السياسية - ونقصد هنا نص بلفور - بوصفها مفاتيح لفهم إطار الحكم الاستعماري، لكن هذا الإطار لا يُفهم فقط من خلال هذه المفاتيح، بل يتعين النظر في التطبيقات أيضًا، أي في وقائع التجربة التاريخية الفعلية التي أثَّرت فيه وتأثرت به، على النحو الذي يكشف عن الفعل السياسي للفلسطينيين. وسأستفيد من بحث أرشيفي موسَّع في سجلات الانتداب والحكومة البريطانية، أجريته لأجل إعداد رسالة الدكتوراه في جامعة نيويورك في الولايات المتحدة الأميركية في مطلع العقد الماضي (وأُنجِزت في عام 2008) عن تسوية أراضي غور بيسان (أو أراضي الجفتلك - المدورة التي كان يملكها السلطان عبد الحميد الثاني). ويجدر أيضًا التنويه إلى أنني أقوم حاليًّا بتوسيع البحث المذكور، لإصدار كتاب باللغة العربية حول الموضوع، بالتعاون مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية.