للاستدلال على دور الكتابة التاريخية في دعم دولة الإصلاح، اعتمدنا في هذا البحث على أثرين تاريخيين لكاتبين عايشَا مسار التجربة الإصلاحية التي عرفتها البلاد خلال القرن التاسع عشر، وقد تبيّن لنا من خلالهما كيفية انتصار فعل الكتابة التاريخية لعملية تحديث الدولة. فالأثر الأول هو العقد المنضد في أخبار المشير الباشا أحمد لمحمد بن سلامة (ت. 1849) الذي كان عالمًا شغل خطة القضاء والإفتاء وواكب المرحلة الأولى من الإصلاحات المنجزة في البلاد المتعلقة بالتحديث العسكري والتعليمي. وقد عبّر في هذا التأليف، بأساليب شتى، عن مساندته المطلقة لمجمل الإجراءات التحديثية التي تبنّاها البايات. أما الأثر الثاني، فهو إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهدالأمان لأحمد بن أبي الضياف (1804- 1872) الذي شغل منصب رئيس الكتبة في البلاط الحسيني أكثر من - ثلاثين سنةً، وعايش الإصلاحات في طورها الأول، وفي طورها الثاني الذي عرف بـ "الإصلاح القانوني"، وقد كان فاعلًا في إعداد منشور "عهد الأمان" الصادر سنة 1857، ثم "قانون الدولة" أو دستور 1861.
سنحاول من خلال قراءة في منطلقات التدوين، كما أعلن عنها كل من المؤلفين في بداية عمله، وإن اختلفت الأساليب والمرجعيات بينها، معرفة كيفية ارتباط العملية التأريخية بإصلاح الدولة، وكيفية تأثير هذا التمشي في قراءتهما للأحداث ومواقفهما من الإصلاح باعتباره الخيار الأمثل في الحفاظ على كيان الدولة. ويستند هذا العمل إلى مقاربة تقوم على قراءة للخطاب التاريخي باعتباره فعلًا يدافع من خلاله المؤلف عن إعادة بناء الدولة؛ اعتمادًا على جملة من المبررات في مواجهة مواقف أخرى مناقضة، وفي ظرف تاريخ تميز بالتوتر وباحتداد التنافس حول تصوّر إعادة صياغة الدولة وتحديد وظائفها.
لعله من المفيد، أخيرًا، أن نبين أن كلمة "الدولة" لدى كلّ من ابن أبي الضياف وبن سلامة قد تعني أحيانًا "الحكم". وفي هذه الحالة تذكر مضافة إلى أسماء البايات الحسينيين، وقد يكون لها معنى "البلاد" فترد مجرّدة أو مرتبطة باسم تونس "الدولة التونسية"، كما تؤدي كلمتَا "المملكة" و"البلاد" مضافتَين إلى الاسم "تونس" المعنى نفسه. وفي مختلف الحالات نلمس وعيًا بوجود مجال جغرافي وسلطة سياسية على رأسها الباي وحكومته يتجدد بناؤها بتغير الظرفية التاريخية.
تصفح أدوات هتمل و كس و جافاسكريبت المجانية عبر الإنترنت: المحرر، والعلامات، وصفحات الغش، ورموز الأحرف، ومولدات العلامات، قوالب مواقع الويب وغيرها.